مدونة حكايات فريدة

آنا كارنينا , فن العرض




"وفقا لمذكرات زوجة تولستوي , أنه ذكر شخصية "آنا كارنينا " لأول مرة على العشاء, مساء فبراير الثالث و العشرين عام 1870 قائلا أنه يتخيل امرأة من نوع معين , متزوجة من الطبقة الأرستقراطية و ذهبت في طريق الضلال.و قال أن هدفه أن يجعل تلك المرأة جديرة بالشفقة , لا مذنبة "*

في مارس 1873 , بدأ تولستوي كتابة آنا كارنينا  و في عام 1874 وافق على نشرها مسلسلة بجريدة " المراسل الروسي" , توقف عن الكتابة في عام 1875 و أنهاها في عام 1877 و صدرت في شكل كتاب في عام 1878. تلك الرواية التي تعد أحد روائع الأدب العالمي عامة و كلاسيكيات الأدب الروسي , وصفت بالعمل الملحمي , في كل الدراسات التي كتبت عنها.

تلك الأيام أقرأ أنا أحد تلك الدراسات , كتاب شيق بعنوان : " آنا كارنينا , مرارة النشوة " ل " جاري أدلمن" , و يصادفني عرض فيلم " آنا كارنينا" في السينمات لأذهب لمشاهدته.
يبدأ المخرج " جو وايت" فيلمه بستارة , و خشبة مسرح , لا ينقلك إلى ديكورات منمقة خارجية و داخلية معبرة عن روسيا الإمبراطورية , بل يقرر , برؤية إبداعية جامحة , خلق حالة مسرحية على شاشة السينما.
و من أجل هذا كانت الموسيقى واحدة من أهم عوامل إنجاح هذا الفيلم , بإمكانك الاستمتاع بتلك الموسيقى الخلابة على اليوتيوب  فموسيقى الفيلم بالكامل متاحة, و لك أن تتخيل موسيقى بمثل تلك الروعة تصاحب أداء تمثيلي عالي , بينما أنت تشاهد صورة تم الاهتمام بكل تفاصيلها.

الإبداع يجب أن يكون مجسما , هذا ما أردده دوما , لا يمكن لكلمة أو صورة أو أي تفصيلة خاصة بعمل إبداعي ألا تحوز شرف تعدد التفسيرات , كيف للفن أن يكون مباشرا و مجردا من إثارة الفكر؟ , هكذا يعمل عقل الفنان و هذا ما ينعكس على عمله.

عندما كتب تولستوي " كارنينا " و حازت نجاحا , في أحد رسائل تولستوي بتاريخ 26 أبريل 1876 يقول:
" لو أنني أردت الوصف بالكلمات لكل شيء تعمدت الإشارة إليه من خلال روايتي , للزمني كتابة رواية أخرى .و إذا ما تصور النقاد قصيري النظر أني أردت وصف الأشياء التي تعجبني , ما تناوله "أبلونوسكي " للعشاء أو وصف كتفي كارنينا , فإنهم مخطئين , في كل شيء كتبته أو تقريبا كل شيء , كنت مقودا بالحاجة  لأن أجمع الأفكار معا ..."**

و حتى نهاية تلك الرسالة يشرح تولستوي كيف أن كل تفصيلة لها بعد آخر , و هذا بالفعل ما يميز أي عمل بحجم رواية تولستوي .

و لقد لاحظت كمتفرجة , احترام المخرج "جو وايت" لحجم العمل الذي قرر تناوله بطريقة مختلفة و جريئة  فاهتم بكل التفاصيل بشكل ظاهر, بشكل يجعلك متأكدا أنه لا يوجد ما هو على سبيل المصادفة .

لون فستان " آنا " الأسود الذي يقابله بياض فستان "كيتي " في مشهد الحفلة الراقصة , ترتيب المشاهد و الحوار , ترتيب الممثلين داخل  المشهد  نفسه من حيث الجلسة أو الوقفة, و ذلك الترتيب تحديدا هو أحد العوامل الهامة في العمل المسرحي على وجه الخصوص و لأن خشبة المسرح ظلت هي الديكور الثابت طوال الفيلم فلقد تعامل " وايت" مع المشهد بنفس الحساسية التي يتطلبها التعامل مع متفرج المسرح , حيث يجب أن تكون كل تفصيلة مستغلة بعناية , كي يستطيع المشاهد تلقي لا ما هو مباشرا فقط بل كل ما هو ضمني , و مقصود لأن ذلك الضمني هو ما ينقل المشاهد لحالة التوحد مع العمل و رسالته.

لابد أيضا من الإشارة إلى الطريقة التي قدم بها العمل شخصية الزوج " كارنين" - " جود لو" و كيف أنه أحب زوجته " آنا " بطريقته , و "جود لو" أدى الشخصية بشكل آسر , بشكل جعلك تستشعر انسانيته و تشفق عليه , و هنا يتجلى جمال العمل في حيادية عرض كل شخصية فرغم شعورك بالشفقة تجاه " آنا" إلا انك في نفس الوقت تستشعر ألم زوجها .


لا ينتهي العمل الذي يجب وصفه بالعرض المبدع , بمشهد انتحار " آنا", بعده نرى ليفين يعمل في الحقل و يسأل الرجل العجوز
" كيف نعرف الصواب من الخطأ؟"
" ببساطة نعرف" هكذا يجيبه العجوز فيقول ليفين بثقة " أنا أؤمن بالأسباب"
فيرد زهوه العجوز بحكمة " ليست دوما الأسباب هي ما يعتد به , قل لي , كيف اخترت زوجتك؟"

و يذهب ليفين لزوجته التي اختارها فقط من أجل الحب و يود أن يخبرها أنه قد فهم شيئا , لكنه لا يقول شيء , يحمل رضيعه و يقف صامتا و كف الرضيع تمسك بأصبعه.

ينتهي الفيلم بالمسرح و قد تحول إلى مرج أخضر و ابن آنا من زوجها و ابنتها من عشيقها يلعبان معا , و الزوج يرقبهما في هدوء و على وجهه بِشر.

في العمل الذي وصف مأساة العشق , خاتمة  بإيحاء لأمل , و رغم وصفه لسعادة البشر و شقائهم و حسن و سوء اختياراتهم تظل الكلمة الأخيرة هي ما أجاب به عشيق آنا سؤالها " لماذا تحبني؟"
" في ما يتعلق بالحب لا تسأل لماذا"


....................
Source is the book*
(Anna Karenina 
The Bitterness of Ecstasy)
for
(Gary Adelman)

1 comment

يا مراكبي said...

ناقدة فنيِّة قديرة ما فيش كلام :-)

ما شاء الله

Professional Blog Designs by pipdig