مدونة حكايات فريدة

"ترانس كندا" الهروب من فخ النمطية إلى عُري التناقضات.





"ترانس كندا" الهروب من فخ النمطية إلى عُري التناقضات.
أميرة الشربيني

"ترانس كندا " هي التجربة الروائية الأولى للكاتبة المصرية المهاجرة سماح صادق ورغم ما قد يصيب الروايات الأولى من أخطاء البدايات والتجريب وافتقاد الخبرة، إلا ان هذه الرواية تجتذب قارئها بحالة صدق شديد وبساطة لا حد لها.
 تبدأ سماح صادق روايتها الجديدة" ترانس كندابإهداء يشير إلى الحرية قائلة "إلى هؤلاء المغامرين الذين لا يخشون الوحدة و لا يخافون في حريتهم لومة لائم ", رابطة ما بين المغامرة و الوحدة و الحرية.

لكنك و من خلال الرواية تخلٌص إلى أن الهجرة أو تغيير المكان قد يحرر فقط أفعالنا الظاهرة بينما موروث الوجع و المفاهيم الخاطئة و كل ما يخلفه بنا وطننا الأم, هو ثقل ينوء به كاهل أرواحنا و يعوقنا في بعض الأحيان من التحرر الفعلي الذي يبدأ داخليا.

 فلقد هاجرت بطلة الرواية لتلحق بحبيب شكل جزءا من ماضيها, حالمة أن تبني معه المستقبل, لكن ينتهي بهما الحال مكفرين عن أخطاء الماضي و الحاضر, فتحتاج البطلة في النهاية إلى "هجرة أخرى" و هذا كان عنوان القسم الثاني من الرواية  و فيه تروي البطلة حكايتها بينما تتنقل ما بين مدينة و أخرى على طريق "ترانس كندا" هاربة من زوجها .
  البطل هو الراوي, إلا أن الكاتبة استعارت منه منصة الحكي في بداية الرواية حيث قسمت الجزء الأول المسمى "فيما قبل الهجرة" كمدخل, إلى خمسة أقسام كل قسم يحمل اسم شخصية من شخصيات الرواية الأساسية.
 اسم بطلة الرواية " إيمان" يحمل دلالة متعمدة فالرواية التي تقع في حوالي 200 صفحة. تعرض قصة فتاة مصرية ذات خلفية اجتماعية متواضعة,آمنت بتحقيق أحلامها و شقت طريقها باجتهاد كي تتحرر من كل ما ظن المجتمع المحيط أنه حتمي بالنسبة لفتاة بظروفها, و يرافق البطلة في تلك الرحلة شخصيات مصرية أخرى انتهى بها الحال مهاجرة إلى كندا التي يحمل الكتاب اسم مجموعة الطرق السريعة الرابطة بين مدنها.

لغة الحوار هي العامية و لغة الرواية نفسها بسيطة و مكتوبة على شاكلة المذكرات لكن وصف الرواية بالبساطة فقط دون الإشارة إلى عمق التدرج النفسي للشخصيات قد يبدو مجحفا, حيث نجحت الكاتبة في نقل  التغيرات النفسية التي أصابت بطلة روايتها في مراحل حياتها المختلفة الزاخرة بالأحداث.

رغم أن دلالة استخدام " الطريق" أو "الرحلة" قد تبدو كليشيها متكررا إلا أن استخدامه في تلك الرواية هو أمر منطقي حيث البطلة قد انتقلت من مكان لآخر بالحياة مغلقة بابا تلو الآخر ورائها  للأبد على حد تعبيرها, كشخصية متحركة على طريق الحياة, و من خلال تسعة عشر مدينة حملت الفصول أسمائها  تسرد " إيمان" حكايتها منتقلة ما بين الماضي و الحاضر, كل مدينة هي محطة توقف ما بين مرحلة و أخرى في القصة التي لا تُعد تصاعدية و لا تحمل نمط الوتيرة الواحدة أيضا بل هي أقرب لأن تكون حكايات عدة متصلة, لم ينقصها عامل التشويق, و كما أشرت قبلا بساطة اللغة جعلتها سلسلة و مباشرة.
لكن لغة الخطابة التي أنهت بها" سماح صادق" روايتها كانت مطولة, حيث عمدت إلى المباشرة في قول كل ما كان قد قيل ضمنيا بالفعل من خلال الرواية, و كان من الممكن تجنب تلك المباشرة والسماح للقارئ بالتفاعل مع الرسائل الضمنية الغير مبهمة, أكد مقالها الخطابي النهائي كون روايتها, رسالة موجهة لطبقة معينة من الفتيات المصريات داعية إياهن لتحقيق أحلامهن رغم أنف المجتمع.

 و لقد ظهر هذا جليا في استخدامها لفظ " البنت" تحديدا قائلة على لسان البطلة  في الفصل الأخير "هذا بجانب بعض الأشرار الذين يحقدون على البنت و أحلامها التي تطال السماء, لذلك يشعروني دائما بالنقص, يدفعوني لتذكر الماضي و بفستاني, حتى بعد أن غيرته لي السنين مرة بعد مرة"
الرسالة الموجهة عن التحرر و الحرية لم تُسقط الرواية في فخ النمطية المكرر و لم تظلم شخوصها, فعلى سبيل المثال, "يوسفالشاب المستهتر اللعوب و المدمن بن الناس الأغنياء هو نفسه "يوسف" الإنسان و الرجل الذي يُعتمد عليه من قبل إيمان لأنه بطلها و رجلها الشهم, الذي لم تجد رجلا مثله في كل المحيطين بها. و لم تكرر "سماح" القصة التقليدية للفتاة الفقيرة التي أُجبرت على بيع نفسها, بل سردت قصة فتاة لها سقطاتها رغم المقاومة كأي بشري يضعف حينا و يقوى أحيانا أخرى و هو ما اختصرته في الرواية قائلة:
" بداخل كل منا كل هذه الأوجه, كل هذه التناقضات, لن يمكننا رفضها أو التخلي عنها, بل على العكس, وجدت راحتي في توازنها و اتفاقها سويا, في تقبلها جميعا و اكتشفت أن المتمردة هي الأكثر قدرة على التقبل فبسبب أخطائها الكثيرة تعلمت كيف تسامح مثلما تعلمت أيضا ألا تثق في الوجوه البريئة الأخرى"

خرجت شخصيات "ترانس كندا" علينا ببهاء الحقيقة الموجعة, فورطتنا في التفاعل معها و التألم لألمها . الرواية مختلفة تعرض جرأة و صدق و أفكار تدعو للتأمل, في عالم أوسع من تصورنا القاصر, حيث الفتاة التي كانت ترقب أقدام المارة في بيت تحت مستوى الأرض, قد انتهى بها الحال هاربة نحو المستقبل في سيارة تطوي أرضا منبسطة لا يظلها سوى السماء الرحيمة.

No comments

Professional Blog Designs by pipdig