الكل يخبرك أنهم يريدون
أن يعرفوا الحقيقة , و تلك هي الكذبة الأولى .
الكل يدعي انه لا يعرف الحقيقة و
تلك هي الكذبة الثانية.
تقول الجدات أن من لا يرى من الغربال هو أعمي و تلك هي
الكذبة الثالثة , لأنها إن كانت حقيقة سيعني هذا
أن معظمنا عميان , لأن ما تفعله بنا الدنيا طوال الوقت أنها تهز غربالها.
الدنيا تهز غربالها
و"فاطمة" تهز وسطها فالرقص بالنسبة لها تحرر , لغة روح , يحبسها الجسد
المحدود فتتمطى داخله كي توسع حدودها لكن
أجسادنا لا تمدد , و في الفيزياء علمونا أن هناك أجسام تتمدد بالحرارة و تنكمش
بالبرودة لكن أجسامنا تشيخ , نكتسب الوقت و نفقده في نفس المعادلة المتوازنة كعادة
الحياة.
و شيخوخة " علي
" كانت أزمته , كان بإمكانها ملاحظة هذا عندما مد كفه لها كي تقرؤه , كان
وقتها رجلا في الخامسة و الثلاثين , العنفوان يغرر به و الحمق لم يزل يلازمه ,
فنضج البشر لا يأتي بالوقت و لذا تعتبر الفاكهة أكثر صدقا لأنها لا تقاومه و تترك
نفسها للسقوط , و المقاومة هي الكلمة التي رأتها على وجه " علي" , و هي
لم تقرأ طالعهم أحداثا فلقد كانت ترى أشياء أخرى , و لم يخيب معها طالع واحد على مدار
عمرها , و عندما ولدتها أمها صهباء قالت لهم "تلك البنت ستخاوي الجن" .
" فاطمة" تقول
أنه غير مصرح لها أن تخبر كل ما تعرف , و لا أن تؤكد أمرا بعينه أو تخبر ما قد
يغير المقدر, و التغيير كلمة لا ترادف المقاومة , المقاومة هي نطح الكبش بقرنيه في
حائط , و التغيير هو هدم الحائط و إعادة بنائه من جديد, و عندما هدمت العمارة التي
كان " علي " يسكن بها و القاطنة أمام العمارة التي كان زوجها يعمل بها
بوابا , لم تره طوال السنوات العشرين التي مرت سوى مرتين , كان بشبابه رجل متوسط
الطول , رشيق القد , له ابتسامة شخص لعوب.
يأتيهم وحده كي يطلب من زوجها ما يريد , فعمارته
كانت بلا بواب , عمارة بنيت في الستينات , أربعة طوابق , إيجار قديم و سكانها لا
يريدون تحمل نفقة البواب , كان "علي "سخيا علي زوجها و كان ينظر
للوشم المرسوم بذقنها و يقول لها كالمغازل , متطلعا لعيونها البنية ,
" متى ستقرئين لي طالعي يا " فاطمة" ؟ " فتبتسم له و لا
ترد و تنزل طرف شالها على صدرها و تمسكه كي يدثرها بإحكام , و كانت قد قرأت نصف
طالعه على وجهه بالفعل لكنها لم تخبره
"إنه سيعيش كآخرين, يختار بناءا على حسابات تفسدها مجريات الأمور, و يظل
داخله ذلك الشعور الآكل جوهرهم بنهم , ذلك الشعور بأنه شيء ما ينقصه , سيحصل عل كل
ما ظن أنه يريد لكن سينتهي به الحال بأن يصيبه صمت لم يعتده منه المحيطين , و لم يره هو قادما, و لأنه كافر
بكل شيء , قد يبحث عندها فقط عن الإيمان اللازم كي يجد السلوى, و عندها الوقت
سيكون هو الحكم , كما كان دائما و سيظل"
هذا
ما سمعته يوم بسط لها كفه و مده لها راجيا , و أومأ لها زوجها بالموافقة , لكنها
بدلا من هذا قالت له:
" ستتزوجها و تنجب و عملك سيزدهر, ستكسب من المال ما يلزمك و ستسافر
ثم تعود "
قال
ممازحا :
"
أتزوج !! فال الله و لا فالك " ,
كانت
ترى انه يرتب فعلا لخطبة عروس و رأت امرأتان تبكيان , احدهما بدت لها كأم .
ابتسمت
و لم تجبه و أردفت " اقلع عن الشراب
" غابت ابتسامته و ظهر القلق و سأل بجزع " ليه؟"
فردت عليه بصوت هادئ و ببساطة من لا يعني
شيئا" كي يبارك الله لك في عروستك
" فعاود الابتسام .
رأت بطالعه مرضا قادما بعد وقت لم تر مداه, و بجانب
فراشه مقعد خاوي لم تتبين إن كان به أثر ناهض .
"
ظاهرك القسوة و باطنك الأسى " قالتها
له بعد عقد واحد , عندما بسط ثانية كفه الذي أثر به العمر , نظرت بعيونها التي لم
تفقد حدة بصرها إلى صلعته و ابتسمت مشيرة " أزمتك
في تلك " فتنهد هو و لم يعلق , و عقبت هي مجيبة في تأكيد و معلقة على ما ترى من
تساؤل بقلبه " لن تجدها يا علي "
فكاد لحظتها أن يتكلم لكنه لم يفعل
بعد
عقد آخر مد كفه من جديد ووضعت " فاطمة " إصبعها الصغير الأسمر المعروق بفم حفيدها النائم على
حجرها كي يمصه و هي تنظر للكف الممدود باهتمام.
" سيطلق زوجته للمرة الثانية , و المقعد خالي
و لا أثر لناهض , لكن لا يبين إن كان سيحوي فيما بعد جالسا, و أثر بكاء كثير ,و
وجوه نساء , و امرأة أخرى تبدو كأم "
لكنها
لم تقل له سوى " تونس بعيالك , لا يأخذ رجل أكثر
من زمنه" , ثم أردفت:
"
لن تخرج من صمتك فلقد تكلمت في شبابك أكثر مما ينبغي ,
الصمت هو حفيد الوحدة " , و قد كانت تعرف أنه وحيدا منذ البدء .
2 comments
عدنا بعد غياب ونشر 29 بوست بالتمام والكمال
القاضي
عود احمد
:))
تسعدنا زيارتك دوما
Post a Comment