مدونة حكايات فريدة

تفرق السُبل

 






كيف انتهي بنا الحال هنا؟!

لم تكن نية مسبقة أو خطة سرنا باتجاهها، أن ينتهي بنا الحال كل منا في بلد، تمر السنوات دون تلاق وعندما نلتقي ننزع من الوقت أيام معدودة تجمعنا.

صار من الصعب جدا أن نجتمع كلنا في مكان واحد!

أخي الكبير اجتمعت به مرتان فقط خلال السنوات الثمان المنقضية.

مرة منهم كانت يومان لا أكثر!

نخطط الآن للقاء ثلاث أيام على أفضل تقدير بعد أربع سنوات من آخر لقاء، إن أراد الله.

كم ثمان سنوات بقت بالعمر؟

بهذا المعدل قد يبقى لنا من اللقاء الفعلي المجمع ما لا يتعدى بضعة شهور على أفضل تقدير.

ولربما نعد الأيام قرب انتهاء العمر ولا تبلغ الشهر الواحد!

الأصغر قرة العين، والأوسط الشارد دائما اختياريا، يدوران بدوامتهما.

لم تكن هجرتي وحدها هي السبب، المهاجر ليس فقط من حصل على جنسية أخرى، هناك من يسافر ويتجنب العودة بكل سبيل.

في واقع الأمر النسبة الأكبر من جيلي من العائلة يعيشون خارج مصر.

كلنا نريد لأبنائنا المكان الأفضل والقادر على منحهم فرص أكبر.

حقيقة محزنة لكن لا يمكنك انكار وجاهة أسبابنا ودوافعها.

أنا وأشقائي لسنا بحالة فردية. لكن عدم تجمعنا بالقدر الكافي هو اختيار ضمني لأن مصر لم تعد هي المكان الذي نخطط قضاء إجازتنا السنوية به، وبما أني حرفيا بالنصف الآخر بالعالم، وهم ببلاد مختلفة بالنصف الآخر، صار ترتيب مكان لقاء عائلي نوع من أنواع التحدي.

والبعد المكاني والزماني ليسا هم السبب الوحيد، فهم يفصلهم عن بعضهم أقل من ساعتين وتظل تجمعاتهم يبعدها سنوات.

انشغالات الحياة كما نكرر لأنفسنا وهذا حقيقي لا مجرد عذر. الحياة صعبة وطاحنة.

جيلنا ليس أول من سافر من أبناء أم الدنيا بحثا عن مستقبل أفضل، لكن أجيال من سبقونا اعتادوا على جمع الأحفاد في البيت الكبير بالإجازة الصيفية شهرا بالعام، كي يلتقي الأخوة ولا ينقطع الأطفال تماما عن أواصر الدم.

عندما أنظر لابنتي أدرك أنها لن تختلف عني فقط في الخلفية الثقافية ولكن في ظروف النشأة التي قد تحرمها من مشاعر معينة خبرتها أنا في دفء المحبة العائلية، بينما هي قد لا تفهم هذا أبدًا للأسف إن ظل الحال على تلك الوتيرة.

قطعا سنمنح أبناؤنا تعليما أفضل وبلاد أكثر نظافة ونظاما، لكنهم لن يعرفوا غيرنا نحن الأب والأم، بينما الخال والعم، الخالة والعمة وأبناؤهم هم أغراب يقابلونهم بضعة أيام كل بضع سنين.

الأجيال السابقة ذاقت مرارة الغربة دون حتى تواصل افتراضي يومي.لكن بتجربتي الشخصية أظننا كجيل نعمنا بمقابلات حقيقية ومتكررة كانت أعمق وأهم من ذلك التواصل السطحي الافتراضي السهل!

جعل الأجداد من بيت العائلة قبلة سعى إليها الجميع كلما أمكن.

فضمنوا بهذا أننا عرفنا الخال الذي تغرب عشرون عاما وصرنا أصدقاء مع أبنائه.

وقابلنا العم الذي عاش عمره كله بالخارج والعمة التي حصلت على جنسية أخرى، لا لأيام معدودة بالعمر بل أكثر بكثير.

عندما أنظر لابنتي أعرف أني في المستقبل القريب بإذن الله سأحاول منحها حياة لا تقتصر متعها على المتع المادية فقط ولا ينحصر عالمها في الأب والأم فقط، بينما الجميع صور متحركة على شاشات هواتف.

لقد هاجرت اختيارا لكن هجرتي لم تكن هدف.

أعرف أن الحياة مجموعة من المقايضات وأن لكل شيء ثمن.

ولربما كان ثمن الحياة الأفضل هو ذلك الاغتراب الدائم الذي انخرطنا فيه جميعا.

في لحظة شجن وافتقاد للأهل ووعي باللحظة، تنبهت أننا استسهلنا فكرة الغياب والبعاد ومرور السنوات دون ولو لقاء!

حقيقة مؤلمة وخصوصا إن كانت نشأتك قد خلقت بك طبيعة عكس هذا تماما.

لقد ربيت ببيت عامر بالمحبة والدفء والوصال دون مبالغة ولم تكن أواصرنا الأسرية والعائلية عادية.

مقدار ثقتي ومحبتي لأشقائي الثلاث لا تعكس فقط ما يتولد داخلنا بالفطرة تجاه ذوينا، الأمر أعمق من هذا بكثير ويلزم شرح أسبابه مقال آخر.

كما لم يُقصر والداي حدود محبتنا عليهما فقط ولا على جانب عائلي واحد فقط كما شاهدت في بعض الحالات عندما تقصر الأم علاقات الأبناء على عائلتها أو العكس إن فرض الأب جانبه!

لم يترسخ في وعينا أي مبدأ آخر سوى المحبة للجميع، والبيت المفتوح للجميع، والصداقات مع جيلنا ممن نميل إليه من أي طرف.

لذا فإنه من المستغرب أن ينتهي بنا الحال أشقاء تنفلت سنوات العمر من بين كفوفنا دون جعل اللقاء الدوري أولوية.

رغم أننا لم نكن أبدًا أغرابا في بيت واحد، ولم نفتقد لغة الحوار المشتركة في أي مرحلة ولا بخل علينا والدانا بالحب أو تقوية أواصر الدم.

وعندما خرجت للعالم الكبير أدركت أن ما ربيت عليه جميل ونادر، حيث الصدق والمشاركة والحديث مفتوح مع والداي عن كل شيء وأي شيء.

على طول الطريق قابلت كثيرون ممن لم يعرفوا تلك الهبة وكان الحديث للمعالج النفسي أو الشكوى لصديق أسهل عليهم بكثير من الانفتاح بصراحة لشقيق أو أب!

بينما تمتعت أنا منذ طفولتي ببيت أبواب غرفه مفتوحة دائما وأصوات قاطنيه عالية ولا يوجد شعور أو فكرة محظور التعبير عنها في أي وقت ولا يوجد كذب أو أسرار.

وهذا أحد أسباب ما صرت عليه اليوم من امرأة قوية ومحددة وممتلئة بمحبة أصيلة، أغنتني عن كثير.

محبة خلقت توازن أعانني دون ريب على تخطي تحديات حياتية عدة، وعززت بداخلي حقيقة أهمية عائلتي بحياتي.

طبيعة الحياة أننا لم نكن لنبقى أطفال للأبد في كنف الوالدين، وما نعيشه اليوم هو النتيجة الحتمية للاستقلالية التامة التي منحها لنا والدانا، اللذان لا ينتقدان اختياراتنا ويدعمان حريتنا في بناء حياتنا كما نريد ولم ولا يحاولان ابتزازانا عاطفيا بأي طريقة كي نظل ندور في فلكهم كما شاهدت آخرون يفعلون بأبنائهم، متوهمين أن الابوة دين يجب على الأبناء رده!

حظيت وأشقائي بأب وأم يتعاملان معنا من منطلق المحبة، فنختار نحن بكامل ارادتنا التمتع بصحبتهم عندما نستطيع ولا نُخفي عنهم أمرا، لأننا ربينا على المسئولية الحقيقية، المتمثلة في التمتع بحرية الاختيار والوعي بعواقبه.

 لكن يبدو أنه بينما ندور في دوائر الحياة غفلنا عن أن اختياراتنا لن تؤثر فقط علينا بل على أبناؤنا أيضا.

أبناؤنا الذين سيرثون منا الغربة التي فرضناها على أنفسنا كأنها اختيار حتمي لا تحايل عليه.

وهذا غير صحيح، يوجد دوما حلول وسط، ومقايضات بديلة لمن يريد.

ابنتي تستحق مني أن أهبها ولو جزء من ونس وبعض من محبة أهل، لا يجب على حرمانها تماما مما نعمت به أنا عمرا بأكمله.

وأنا كعادتي أكتب اليوم تذكرة لنفسي في المستقبل وأنا على مشارف مرحلة جديدة ستأتي بتحدياتها.

كم أربعون بقت بالعمر إن نعمنا بالصحة والعمر؟ يعلم الله وحده، لكني أعلم أني حرة باختياراتي وقادرة تماما على الموازنة بين الأمور إن أردت، ولا يُعيننا العليم إلا إن أردنا!

 

أميرة الشربيني

27 يوليو 2022

ميرلاند- الولايات المتحدة


No comments

Professional Blog Designs by pipdig