مدونة حكايات فريدة

لأن الهري فعلا لم يعد يفيد! "في ذكرى ثورة يناير العظيمة"

 



لأن الهري فعلا لم يعد يفيد!

"في ذكرى ثورة يناير العظيمة"





بمقهى داخل مكتبة بواشنطن العاصمة، ضبطتني أقول ما معناه أني صرت أشبه بالمفكر المتفلسف الجالس على جانب الحياة يتأمل، لا طاقة لي بجدل وتخليت عن حلمي بتغيير العالم.

اختصارا، أدركت معنى مقولة جلال الدين الرومي الشهيرة "بالأمس كنت ذكياً فأردت أن أغير العالم.. اليوم أنا حكيم ولذلك سأغير نفسي."

بالقلب تردد صدى ما قلت وتنبهت إلى أنه نوع من اليأس، أن تخليت على مشاغبة العالم ومٌحاجَتُه عله يتغير!

كنت أتحدث لصديقة جميلة صغيرة سنا لكنها ناضجة حكمة ومعرفة، ولم أسهب في تفسير الأسباب وراء ما قلت.

لم أخبر صديقتي حديثة العهد بمعرفتي، أن هناك لحظات عامة فاصلة في حياتي على المستوى الفكري تحديدا، منها دون شك ثورة يناير 2011 وما تلاها، التصويت لنعم على الاستفتاء الدستوري في مارس 2011 ثم ادراكي عقب الاستفتاء الدستوري في ٢٠١٩ أن مصر كدولة لم تحظ في تاريخها كله بالتجربة الديموقراطية الحقيقية كاملة!

تنبهت لهذا بعد قراءتي كتاب موجز تاريخ أوروبا الذي يسرد تحول أوروبا من الحكم الملكي للحكم الديموقراطي، وكيف تعاملت انجلترا مع موجة الثورات المجاورة وكيف شكلت نظامها الديموقراطي الحالي عن طريق انتخاب رئيس الوزراء.

كمصرية استدعيت تاريخ مصر كدولة منذ عهد الفراعنة، على حد علمي لم يتطور نظام الحكم في مصر خارج حقيقة أنه أيًا كان من سيقفز على الكرسي سيقود! عهد إثر عهد، فراعنة أم رومان، مماليك أم أتراك، ضباط أم غير، لا فارق!

 لم نتطور كشعب من عهد لعهد، تتشابه الأحوال مع اختلاف العهود.

ولم يولد أي حدث مهما كان مؤذيا الطفرة اللازمة للشعب المصري كي يطور من وعيه فيدرك أن شكل علاقته القديمة بالحاكم لم تنفعه، وأن الفساد الذي يسلمه كل عصر ديكتاتوري للعصر الذي يليه، أدى إلى تجريف كل شيء.

للأسف على ما يبدو أن هذا الشعب مدمن لشكل العلاقة المرضي الذي ألفه منذ البدء، فرعون يحكم دون محاسبة وشعب يبذل عمره دون طائل، وسخرية وتطاول بين العامة للتنفيس، ولا مزيد!

تلك ليست نظرة فوقية لشعب أنتمي إليه, على العكس بما أني مصرية فإنه من الصعب علي أن أتطلع لتاريخ بلدي لأجد أن ما يدفعني للتشاؤم يفوق ما قد يبعث على التفاؤل!

أعتذر عن سوداوية المنظور، لكن لا يمكن تفادي شعور مرارة الحقيقة في الحلق حتى وإن لم تتفوه بها، وأنا لا أستسيغ شعارات مثل الثورة المسروقة والمركوبة والمبتورة، فواقع الأمر بالنسبة لي تخطى عظمة الثورة، هي ثورة عظيمة دون شك، ويكفي أنها أذاقت شعب ولو قطرات من شعور قوة الإرادة وما يمكنها فعله. لكني اليوم أتطلع إلى ما بعد عظمة تلك المرحلة وبقلبي تساؤل عن طبيعة المصريين الذين أنظر لهم جميعا ككيان واحد غير منفصل، بدون تقسيمات ومصطلحات لا أفهم جدواها!

فكل ما تلا ثورة يناير علمني أن هناك مصطلحات شائعة ضررها أكبر من نفعها، مثل الحديث عن مصر ككيان منفصل كأنها كائن ما يجب أن نمجده أو نلعنه أو نُطالب بالتضحية من أجله!  أيضا الحديث عن الشعب كأنه منفصل عن الحكومة والحكام! كأن من يحكمنا من عرق آخر أو جنسية أخرى. كأن هناك فئة قليلة مندسة فاسدة بين الشعب المصري، بينما إن دققت وتأملت الحال ستدرك أن جميعنا فاسدين بشكل ما أو بآخر! وأن الفئة القليلة جدا هي الفئة الغير فاسدة وأن هذا أصل البلاء أو اللعنة.

بالنسبة لي مصر هي الشعب بكل فئاته وما يحدث لمصر كدولة هو نتاج ما تفعله كل تلك الفئات، وعليه يجب أن أقر أني قد أحبطت للغاية عندما تنبهت لحقيقة تجربة مصر، لا يمكن أن أجزم أن اليأس قد تمكن مني لكني أصبت بحالة من الزهد في الكتابة عن الشأن العام أو نقده أو محاولة تحليله.

أتى على وقت استعصى على الفهم فصمت. ولا أتكبر عن الاعتراف أن قدر ثقافتي لا يؤهلني لتحليل الهوية المصرية عبر العصور وسرد أسباب نكباتها المتتالية. يلزمني كثير من القراءة في التاريخ وعلم الاجتماع كي أفهم فأنا ببساطة مصرية عادية لا يمكن تصنيفي ضمن النخبة المثقفة الفاهمة ولا أملك أي توجه سياسي محدد مما يجعلني بعيدة عن التحيز المطلق الذي يسوق المرء وراء الدفاع الأعمى.

كثيرون مثلي يريدون الأفضل لكن كلامهم مجرد هري على السوشيال ميديا لا يغير شيئا ولقد توقفت عن الهري لأني عرفت أن الهري لا يفيد! وبصراحة شديدة بعد 2011 فطنت أن أقصى ما يُسمح لنا هو الهري، وأن الدول تتقدم وتحدث لها طفرات تنقلها لعالم الديموقراطية، من خلال الدساتير والقوانين لا عن طريق الهري.

وعلى ذكر الهري فإن نصيحة "بطلوا هري" ذكرتني بالنصيحة الشهيرة المنسوبة لماري انطوانيت والمشكوك في صحتها "ياكلوا جاتوه"! الفارق أن الشعب الفرنسي عندما جاع ثار بالفعل وتطورت ثورته رغم عدم مثالية بدايتها حتى وصل لحكم جمهوري ديموقراطي حقيقي، بينما الشعب المصري يبدو أنه أدمن أكل الهري فشغله عن الجوع! 

و في رأيي فإن تنبيه الشعب أن يتوقف عن الهري لأنه لن يفيده هو فعل ثوري وجريء، يتضمن تنبيه للشعب أن كل ما يملكه فعلا هو طق حنك فارغ يلوك الهري بدلا من الخبز والجاتوه وأن مصيره لن يتغير إلا إذا أقدم على فعل حقيقي يضمن له حق العيش كغيره من الآدميين.

مثلما حدث يوم 28 يناير 2011 فسقط ضحايا لثورة حقيقية لم يتوقعها حتى أبناء الشعب العاديين أمثالي، بعد 12 عاما صرنا لا نملك سوى الهري وحتى هذا توقف كثيرون عنه لأنه فعلا لم يعد يفيد!

أذكر نفسي بما كتبت يوما في رواية

"نحن لا نختار زمننا ولا وطننا ولا آباءنا، لكننا نختار مصائرنا، وعمر الأفراد يقاس بالسنوات بينما عمر الشعوب يقاس بالعقود."

كم عقد مر وكم عقد سيمر وكيف سيحكي التاريخ عن 2011؟ هل سيُكتب يوما أنها كانت بداية تطور وعي هذا الشعب القديم قدم الوجود أم أنها كانت صحوة ما قبل موت، لهوية شعب توالت نظم الحكم كلها عليه واستسلم لهم نظام تلو الآخر حتى سُحقت تلك الهوية تماما؟!

سنرى!


No comments

Professional Blog Designs by pipdig