مدونة حكايات فريدة

حكاية ثورة



    إن الكتابة في هذا الوقت الحرج قد تعد عبثا حيث إنه لا صوت يعلو فوق صوت الفوضى .. الفوضى هي ذلك السلاح الذي تـُضرب به مصر الآن .. و هو سلاح بالغ الخطورة و الفاعلية .. حيث أنه غير معلوم المصدر و لا التوجه .. و إنها لخطة ماكرة للغاية .. لأن الفوضى أكثر خطرا من الرصاص .. الرصاص الحي يثير الغضب و يؤجج نار الثورة أما الفوضى فإنها تـُجهض الثورة بتشتيت الفكر المحرك لها و إنقسامه و بمحاولة إخراس صوتها بضياعه وسط الأصوات المتداخلة العالية المنطلقة من كل صوب الآن
إننا نسمع الآن كل ماهو وارد و غير وارد  و كلٌ يــُدلي بدلوه و يـُطلق اتهاماته و يعرض وجهة نظره و يدافع مستميتا عنها ... إننا نشارك دون وعي في تشويه فكر و في محاولة إجهاض ثورة كان من الممكن أن تغير المنطقة بأسرها
لكني على الرغم من هذا أكتب ... رغم أني بالأساس لم ادع أبدا حب السياسة .. كامرأة تنعت نفسها بالحكائة أرى في السياسة حكاية منقوصة ككتاب قطعت بعض صفحاته .. حيث أن قراءة التاريخ قد علمتني أنه فيما بعد و بسنوات طوال نكتشف ما كان يجري وراء الكواليس و ما لم نعرفه في حينها و أُخفي عن فهمنا نحن العامة البسطاء
لكنني و كمصرية أراد الله لها أن تعيش لتشاهد ما حدث في بلدها يجب أن أحكي .. لا استعراضا لوجهة نظر و لكن محاولة متواضعة لإطلاق تساؤلات .. و التفكر بهدوء وسط الصخب .. و ككتابة لأفكار تشبه فيما بعد شهادة متواضعة جدا على عصر عشته بالفعل لم أسمع أو اقرأ عنه.
       
بداية من الخامس و العشرين من يناير بدأ المصريون في كتابة حكاية تاريخية غير متوقعة .. فذلك الشعب الذي احتار المحللون فيه لعدم ثورته عقود طوال .. و الذي تشوه فكره .. و طُمست وطنيته و انتمائه .. و أفسد تعليمه و هذا في رأيي الشخصي أسوأ ما حدث خلال العقود الماضية .. من بين هذا الجيل الذي اتهم بالسلبية و الجهل و الفقر و عدم الانتماء .. جيل لم يتعلم كيفما ينبغي و لم يــُفطر على حب بلد اعتاد أن يهان فيها باستمرار .. جيل تناول طعاما مسرطنا و شرب مياه ملوثة و حرم ببساطة غير مبررة من أي حق له بالأمل أوالحلم 
ذلك الجيل و معه كل الأجيال الأخرى التي تحيا على أرض هذا الوطن استطاع أن يخلق ما يشبه الطفرة الجينية .. حيث أنه قام بثورة .. لم تك فقط غير متوقعة و لكنها كانت قوية 
قوتها كمنت في أنها لم تكن ثورة موجهة .. ففي بلد قـُمع فيه أي توجه و أضعف فيه كل حزب .. خرجت ثورة كالطوفان .. دون توجه محدد و لا زعامة مؤكدة ... و الأدهى أنها كانت ثورة معلنة !!!... كسرت حاجز الصمت و أظهرت ما لم يك في الحسبان ... فذلك الشباب الذي لا يقرأ معظمه و لم يك أبدا ليكترث وقف في الأزمة ينظم المرور و يحمي أرضه و استطاع جمع الناس بالملايين و استطاع أن يهز العالم
لم يهز العالم بصوته الهاتف
لا
هز العالم بإدراكه أن الدولة هي الشعب و أننا نحن من نحرك المؤسسات و أنه بثورتنا شللنا الدولة و جعلنا الإقتصاد العالمي ينهار .. و من أجل هذا فقط التفتوا إلينا .. إن قوتنا تكمن في بلدنا بموقعها الاستراتيجي و وضعها الهام في المنطقة اقتصاديا و سياسيا .. تلك البلد هي بلدنا نحن .. و ليست بلد النظام
الشعب لا يملك السلاح و لا يملك الجيش و لكنه يملك ما هو أهم من كل هذا .. يملك مصر .. إن مصر ليست هي الأرض و لا هي النظام .. إن مصر هي ببساطة "المصريين"
إدراكنا لتلك الحقيقة عندما شاهدنا العالم يفزع أمام الشلل الناجم عن تصاعد الأحداث ذلك الإدراك هو سلاحنا الحقيقي الذي يحاول سلبنا إياه التشتت الناجم عن الفوضى
في وسط الفوضى يجب أن تضيع الثورة .. الثورة .. هي فكر .. إيمان .. و عقيدة .. أن تؤمن أنه بإمكانك أن تغير .. و أن تستطيع بالفعل أن تغير و تحول الدولة إلى دولة ديموقراطية بكل ما تحمل الكلمة من معان   
هذا الفكر بالذات هو ما كان يجب أن يـُشوه
اليوم الأقوال تتضارب ... اليوم تتحول الثورة إلى مجرد إنتفاضة .. خلفت دمارا غير متوقع ... البعض معها و البعض عليها
و كل من كان يطلق إتهاما و يشير بأصابع سواء إلى الخارج أو إلى الداخل و يـُعلي صوته صراخا ليثبت ما يقول
!!!
و في نفس الأثناء يستمر مسلسل القتل و التخريبب
و تضيع وسط تلك الفوضى الحقائق التي بزغت على حين غفلة ... و يعاد صياغتها بقصد تعديل تلك الطفرة الجينية التي لم تك في الحسبان
إن التاريخ لا يكتبه الغوغاء .. و في قلب الأحداث تغيب الحقائق التي تظهر فيما بعد عندما تستقر الأوضاع
التاريخ يشوهه البعض .. و يحاول
توجيهه البعض الآخر لكن تظل البديهيات أمرا مسلما به
إن الأهمية لم تعد اليوم تكمن  في رحيل مبارك من عدمه لأن مبارك قد سقط بالفعل على أقل تقدير دوليا و لا  يكمن المكسب في إثبات من المسئول عما يحدث الآن في ميدان التحرير لأنه أيا كان المتهم فالجريمة تمت و تتم و لا يجب أن نتبارى في الدعوة للميل لأي جهة تتبنى وجهة نظر ما .. هذا الذي يـُطالب بالتروي أو ذلك الذي يدعو للاستمرار
كل ما يحدث الآن ما هو إلا إرهاصات .. يحكيها التاريخ فيما بعد في سطور بسيطة ... لكن يظل العنوان العريض الذي يتنبه له أي صاحب فكر  هو المكسب الذي يحاول الآن مـُطلق تلك الفوضى إجهاضه
تـُعلمنا الحكمة القديمة أنك كي تعرف يجب أن تسأل أولا و أن بحثك عن الإجابة أهم من تفوهك بها
أسئلة عدة تدور بذهني بعيدة عن الأسئلة المطروحة على الساحة
ماذا لو نجحت تلك الثورة في تحقيق مطلب واحد لها؟ .. و تخيلنا معا تحول الفكر إلى الديموقراطية الحقيقية؟
 .. إن الفكر أخطر من الرصاص .. و أن تدرك كشعب و يترسخ في فكرك مقدار أهميتك بل و تحصل بالفعل على ديموقراطية قد تؤثر فيما بعد على المحيطين بك ..  ذلك هو الخطر الحقيقي
أن تنظر لما حدث الآن فيما بعد و تعرف أن معك سلاحا ... مؤثرا .. ذلك هو الخطر الحقيقي
باستخدام مبدأ بسيط و قديم " فرق تسد" أطلق مبارك خطابه ليشتت الفكر .. ثم بدأ مسلسل الفوضى الحالي
ماذا لو استقر في الأذهان أنك يوم خرجت تطلب الحرية تسببت و إن كان عن غير قصد فيما نتج عنه إحراق مصر و دمار منشآتها و تأزم الوضع بها؟؟
..بينما في نفس الوقت يُعاد سير البلد رويدا كي يـُرفع سيف الشلل عن الإقتصاد العالمي المنهار و تعود البورصات في الارتفاع تدريجيا
 ماذا لو كان ما يحدث من تشتيت فكري هو ما يسلبك سلاحك الحقيقي؟ .. لأن معتقدك هو أخطر ما سيبقى بعد هدوء الأحداث

إن إجهاض الثورة لم  يقتصر على التشبث بعدم تنحي الرئيس و لا رفض إلغاء قانون الطوارئ و لا إغفال سيادة القضاء على الانتخابات .. كلا لم يقتصر على كل هذا لم يحرمنا فقط حق الديموقراطية التي لا يستعد البعض لتواجدها حقا بالمنطقة و لكنه أيضا امتد إلى تشويه كل شيء بإطلاق ذلك السلاح الفتاك ... الفوضى
إن ما يحدث الآن  و يتبارى الكل في تحليله ليس هو ما يسترعي انتباهي و أنا لا أبكي فقط على مصر و لكني أبكي على معجزة كادت أن تحدث .. على ثورة أجهضت لأسباب عدة نتفهم بعضها و سيكشف لنا الزمن البعض الآخر
إن تلك الحكاية التي سيظل كل فرد يحكيها بطريقته هي أكبر من مجرد رأي .. و أكبر من مجرد نظام له مؤيدين فاسدين و معارضين شرفاء .. إنها حكاية شعب استطاع أن يقتنص في غفلة من الزمن لحظة صنع فيها معجزة كادت أن تخلف تغيرا جذريا حقيقيا و الآن يتم تشويه تلك اللحظة
أنا لا أعرف و لا أحد يعرف
 ماذا سيحدث غدا؟
و لا يعرف أيا منا أجوبة لكل الأسئلة المطروحة
و لا أعرف كيف أصف حزني على مصر التي اكتشفت أني أعشقها أكثر مما تصورت
و لا أعرف إن كان سيقرأ هذا المقال أحد
لكني أعرف يقينا أن تلك حكاية سأحكيها بطريقتي الخاصة و سأظل حتى الموت أنشر فكر كاد أن يولد و الأحداث تتوجه الآن نحو إجهاضه في الرحم
ملامح ذلك الفكر رأيتها رأي العين و من رأى ليس كمن سمع
و بإستطاعة كل صاحب قلم أن يـُذكر الجميع بتلك الحقيقة الراسخة ... و يرد طلقات الفوضى عن مصر ... لن تعود الأمور لسابق عهدها
حتى و إن أخمدت تلك الثورة و شوهت بكل السبل
ستظل البديهيات أقوى و البديهيات تقول
أننا بالفعل نملك القدرة
و أنه من الرحمة بذلك الوطن أن يظل هؤلاء الذين يؤمنون بتلك القدرة صامدين و يُحدثوا التغيير الحقيقي و يـُتموا المعجزة ...و من أجل هذا أصلي و يصلي كل راغب خير لتلك البلد
أما فيما يتعلق بما حدث من دمار و إحراق فإنني اليوم أكاد أن أجزم و بكل أمل أن هذا الشباب الذي وقف في مواجهة الموت و نظم نفسه و حمى بيوته و منشآت دولته سيستطيع إعادة بناء مصر و هذا ليس بحلم
أو قول أمل فلقد أثبت هذا الشباب نفسه في  الليالي السابقة  و عرفنا أن هذا الشعب هو أقوى و أجمل مما أخبرنا التاريخ الذي كنا نسخر منه .. عندما يردد أننا نحمل جينات شعب صُنف يوما كأحد أعظم الشعوب في التاريخ.
حفظ الله مصر و أنار بصيرتنا جميعا


Professional Blog Designs by pipdig