مدونة حكايات فريدة

عن الحب الذي لا يأتي





تأنقت وارتديت معطفي الجديد المفضل, وقررت أني سأذهب لواشنطن وحدي, لم أتصور يومها أن 25 ديسمبر كعطلة عامة تغلق فيه كل المحال أبوابها لدرجة أن البلد ستبدو فارغة كأنها قد هجرت, لكن غياب الناس عن المشهد لم ينتقص من جمال الصورة, والمدينة الخالية إلا من بعض المارة بدت وكأنها مشهد جميل لي وحدي, ألتقطت صوره وتأملته في سكون دون مقاطعة ضجيج.
في محطة المدينة الصينية ذهبت للمطعم الأسباني, كي أجرب شيئا جديدا, كان المطعم مكتظا إما بعائلات أو ثنائيات أو أصدقاء, كرر لي النادل سؤاله: "شخص واحد؟" فأجبت بنعم.
النادل الآخر الذي أتى ليدون طلبي سألني إن كان سينضم لي شخص ما لاحقا, فنفيت بهزة رأس وابتسامة, فأحضر طاقم مائدة لي وحدي.

أفضل في الأماكن جودة الخدمة والطعام, نادرا ما يبهرني شيء مهما بلغت درجة روعته, لكني لست بمنتقدة صعبة الإرضاء, رضائي متواضعا وبسيطا, لا أنبهر ولا أبحث عن النقائص, ببساطة أتلقى اللحظة واستمتع بها, وأفوتها لأنها ستمضي سواء فوتها أو بالغت في تقييمها.

كان ذلك وقتا صعبا جدا بحياتي, ديسمبر 2012, لكني حينها كنت لم أزل متمسكة بوحدتي, لم أقابل شخصا مثلي بإمكانه أن يستمتع بوحدته قدري, إن بإمكاني فعل أي شيء وحدي, ولقد فعلت.

الوحدة التي تبدو اختيارية, في واقع الأمر هي ليست كذلك, هذا ما أعرف عندما أتحدث مع صديقاتي اللواتي كبرن بالعمر ولم يجدن رفيقا مناسبا بعد, أو عندما أمزح مع إحدى اللواتي يزعمن أنهن "مُضربات عن الزواج".
صار أكثر شيوعا أن تقابل فتيات جميلات مثقفات, تعدين الثلاثين أو قاربن منها دون أن يحالفهن الحظ في علاقة توفر التوازن اللازم لكل إنسان.

في الوقت الذي أجلت فيه فكرة الارتباط لم أكن "مُضربة" ولا أستطيع الزعم أني أضربت عن شيء في يوم من الأيام, لقد تغير كل شيء بحياتي عدة مرات عدا إيماني بالتغير ذاته, لذا أنا لا أؤمن بالمطلق ولا أصرح تصريحات نهائية قاطعة, أنا ببساطة أفعل ما أراه صالحا لي, وأحد النعم التي أمتن لها, أني أغلب الوقت أعرف ما أريد تحديدا, وقد سهل هذا علي الكثير وجعلني أقوى وأثبت في مواجهة تبعات قراراتي التي غالبا لا تنال موافقة أو إعجاب المحيطين.

وحدتي كانت اختيارا, ولم أكن راهبة, دوما هناك مهتمون أو أشخاص من الممكن أن أصير معهم إن أردت, لكن الالتزام كما أعرفه
 أنا, وهو أن تعطي من وقتك ونفسك لشخص ما وتسمح له بالتواجد في حياتك بشكل دائم, كان أمرا مؤجلا لا لكوني أتعفف ولكن 
لأن بعض القرارات التي نتخذها بكامل إرادتنا هي مجرد حسبة مفاضلة بين ما نريده وبين ما هو متاح بالفعل.

قبيل هذا الوقت بأكثر قليلا من عام أعطيت وقتا قصيرا جدا لرجل انجذبت له, لكن سريعا ما انتهى الأمر, لأن أيا من لم يكن سعيد, والسعادة هي المبتغى, فالحب يأتينا شئنا أم أبينا, ونحن نطلق على كل الأشياء كلمة "حب" لكن أن تكون "مرتاحا", "راضيا" و"مستقرا" مع شخص يجب أن يكون هو الهدف والدافع للرفقة والالتزام.
تلك الحقيقة التي فشلت أن أقنع صديقاتي بها, والتي أشرحها وأدعو إليها من خلال كتاباتي, من الصعب أن يراها المحيطون إذا ما كان صوت نعيق غربان البين أعلى من شدو من يقر بوجود الرحمة.

فكم نقابل من يصورون عدل المقادير كأنه ضربا من ضروب الخيال, لأن " البخت لما بيميل مفيش حاجة تعدله" و "يا ختي هو مين متجوز ومرتاح؟", و "كل الرجال ولاد..." و "النسوان نكدية بنات..." و "يا مآمنة للرجال!" و "الحب ده في الروايات والأفلام يا حبيبتي"
إلى آخره من موروث الخيبة والفشل, ولن تحتاج إلى فطنة كي تدرك أن ثقافتنا هي ثقافة بلد مكبلة بمحاذير دينية ومجتمعية فلا تعرف المفهوم الصحي للعلاقة بين الرجل والمرأة لأسباب يطول شرحها, فبربكم لماذا تأخذون الحكمة من أفواه الفاشلين؟!

ومؤخرا صار هناك توجه جديد بين الشباب وبعض الشابات الصريحات, بلعن الزواج والالتزام والعلاقات وكشخص يؤمن بالحرية الفردية أرى حقهم في أن يعيشوا ويموتوا دون زواج ولا أطفال.
 لكنهم بدلا من خوض التجربة والفشل تجنبوا التجربة تماما, وأنا لم أقتنع أن هذا هو الحل الوحيد أو أعيش سذاجة المطمئن أنه المبصر الوحيد وسط العميان أو الذكي الوحيد وسط الأغبياء.

لم أؤمن بأي مذهب من مذاهب العارفين, وقررت كعادتي أنه إن كان من حق كل شخص الوثوق برجاحة عقله فلماذا أشكك في عقلي أنا ؟ "وكل واحد ينام على الجنب اللي يريحه" أو لا ينام خالص! كل واحد حر.

لكن ظلت المعضلة أني مثلي مثل كل إنسان له احتياجات عاطفية ونفسية وجسدية مؤجلة,ولم أرد العيش والموت وحيدة, فأنا لم أكفر بالحب ولا بحقي في علاقة متوازنة وصحية, أنا إنسانة طبيعية تماما, ومن حقي في الحياة أن أجرب وأعرف وأخوض تجربتي بنفسي,لا يؤثر على حكمي موروثات مجتمعية عقيمة وبالية أو تكرار فشل المحيطين ولا فشلي أنا شخصيا وخيبتي وطعنات قلبي المنهك.
وفي تلك المعضلة تشابهت مع كل وحيد.

وددت أن ألقى من يحبني لنفسي, من سيقبلني كما أنا, من يكون عنده الثقة الكافية بالنفس وقوة الشخصية المطلوبة كي أثق به وأعتمد عليه, وكل شخص يتمنى ما تمنيته أنا, لكن ليت الأمور ببساطة التمني.
الصعوبة تكمن في أن تجد من له نفس قناعاتك وأولوياتك في التوقيت المناسب لكلاكما, وقد تجده ببساطة إن نقيت حكمك على الأمور من الشوائب الغير لازمة

كاذب كل من يدعي أنه استغنى عن قانون الفطرة وأنه إن قابل من يهبه المودة الغير مشروطة والثقة اللازمة سيركله بعيدا, أو يلعن خيره, إلا إن كان ذلك المتبطر على الخير مريض أو مختل نفسيا.

كلنا نتوق إلى المشاركة, واقعا ملموسا كان أم افتراضيا, لكن هناك من لا يتنازلون عن أولوياتهم اللازمة فيمن يشاركهم في سبيل المشاركة نفسها فيتمهلوا, وهناك من غلبت عليهم الخشية فأعرضوا.

وما بين الخشية والتريث, تُفرض علينا الوحدة ولا يأتي الحب, لذا فقد تناولت الطعام وحدي في مطاعم اسبانية وايطالية وصينية ومكسيكية, ودعاني شاب على الغذاء في مطعم مغربي ورفضت, وإلى اليوم لم أذهب لمطعم مغربي, لكني لم أعد وحيدة,لأني قابلت من دفعني الإعجاب والاحترام والحب أن أطلب منه بكل وضوح أن يبقى متخلية عن هواجسي ومتجاهلة تحذيرات المحيطين.
فلأعش الحب إذا وأعرف بنفسي, وليحدث ما يحدث, ولو "البخت مايل" يبقى الأعور عينه خسرانة, فتحها ليرى أم لم يفتحها 

الحب لا يأتي لنا, نحن من نذهب إليه, إن عرفنا طريقه, ومشاعره لا تُختزل في رجل يقلب حالنا رأسا على عقب ولكنها حياة تستلزم جهاد يومي كي نعيشها كما يجب.

من قال أن الجيد سهل المنال؟ كلنا نعلم أن الأمور الجيدة والأشخاص الجيدين هم الندرة وسط الأغلب السيئ والغير ملائم.
لكن إن كنت تؤمن أنك شخص جيد فلا تطلق أحكاما مطلقة  أن كل الناس سيئين, لأن "اللي خلقك خلق غيرك شبهك وزيك وفيه كمان أحسن منك" الخراط لم يخرطك ثم تمدد ومات كما يقول المثل الشعبي.

أما إن كنت أنت نفسك شخص سيء لا يُعاشر ومن هذا ينبع يقينك أنه لا أحد يستحق العشرة فمن فضلك تمسك بيقينك ولا تعذب أحدا معك.

ثم إنني أرى أشخاصا يرفضون الاعتراف بأخطائهم ويكررونها ثم يلعنون القدر, وآخرين يتزوجون للأسباب الخاطئة ثم بعد ضرب الرأس بالفأس يدركون فداحة ما افتقدوا, مالنا ومال الحمقى والمتكبرين؟

أين هؤلاء الذين علمتهم الواقعية أن الحب موجود لكنه ليس كحب الأفلام والخيال مجرد لحظات بل هو بناء وجهد, مثله مثل كل أمور الحياة قابل للتغير والتبدل لذا من الواجب الحفاظ عليه وتنميته؟

لا أزعم أن تجربتي عظيمة جدا وحياتي لم تنته بعد كي تُقيم تجربتي ككل, ورغم كل قناعاتي إلا أن لي نصيبي من الأخطاء في حق نفسي التي أعترف بها

واليوم أنا مع الرجل الذي قنعت أن حياتي معه, فهل ستكون حياة سهلة؟ هل أتاني الحب العظيم على طبق من ذهب؟
قالت لي إحدى صديقاتي مرة ساخرة مني أني كاتبة أود أن أعيش حكاية خيالية لذا عشت هذا الحب مع زوجي
لم تكن حكاية خيالية وإن بدت مثل هذا, كانت ولم تزل حكاية صعبة ومُتعبة, لكنها لا تسبب تعاستي.

لكل شيء في الحياة صعوبته, هذا الطبيعي, لكن الشاذ والغير منطقي أن تعيش تعيسا كمحكوم عليه بلعنة, أو أن تحب شخصا يعذبك أو لا يقدرك حق قدرك فتجزل له العطاء!
أحب من أراد قلبك لكن افعل الصالح لمحبة نفسك, تتوازن.

كل ديسمبر مر علي بحال مختلف, وغالبا ما كانت طاولتي عليها طقم مائدة لفرد واحد, لكن الوحدة ليست اختيارا وأنا أكتب هذا المقال من أجل كل صديقاتي اللواتي يعشن وحدتهن

 إن أقسمت لكن أن هناك بالحياة لحظات تستحق ألا نستسلم, حتى وإن عشناها مرة واحدة فقط, هل ستصدقونني؟
أعرف الإجابة مسبقا  وأحيانا يصيبني الزهد في دوائر الحكي المفرغة وأعلنها صراحة, فليعش كل شخص ما أراد.

لكن جانب إنساني يحب للغير الخير كما أحبه لنفسي يجعلني أتمنى دوما لو يصدق الجميع, أننا نأتي بالحب ونتمتع به, ولا أتحدث كمرفهة لم تذق ويلات الخطوب, فلقد رأيت في الدنيا هما أكثر مما عرفت سعادة, لكن لا بأس, قد يأتينا الغد بهناء فوق الهناء, فمن جاور أنوار الفرح يسعد, ومن جاور نيران فحيح المتشائمين اكتوى بنارهم ولم يأته الحب أبدا.


No comments

Professional Blog Designs by pipdig