مدونة حكايات فريدة

لم يعد شر البليه مضحكاً!





مثل مشهد العزاء الشهير بفيلم “الكيف”، حيث يحيى الفخراني مسطولا يضحك منتشي ويتمنى للحاضرين عاقبة الموت! صرنا جميعا في مصر، متجاورين في سرادق طويل بطول أيام لا تغلب في الإتيان بمصيبة تبدو دائما أعظم من سابقتها حتى يليها ما يفوقها!

ورد فعلنا الأولي دائما كرد فعل المسطول الضاحك لانتشاء “كيفه”، فنتسابق إلى السخرية والضحك، ونتبارى في تأليف الإيفيه الملائم للحدث، مثلما حدث في حادثة خطف طائرة مصر للطيران الأخيرة، وقبلها ردود الأفعال تجاه بيان الداخلية على العثور على متعلقات “ريجيني” الطالب الإيطالي المقتول، وغيرهما من الأحداث المتلاحقة.

عناوين عريضة تبدو للرائي في أي دولة أخرى كأخبار عن كوارث ودواهي، يترتب عليها عواقب وخيمة تتراوح ما بين تأثر الاقتصاد لتضرر السياحة وبشاعة القتل، بينما في مصر وكما نشهد حاليا، تثير تلك العناوين رد فعل وحيد ودائم، لا يقل أبدا في درجة كثافته بغض النظر عن ثِقل الخبر الذي يُحركه.

السخرية من كل شيء وأي شيء! وبسرعة تناقل الخبر، نتناقل الإشاعات، والكوميكس، والصور المركبة، والنكات.

وقد يعيب على الضاحك صاحب عزاء، فمن يدافع عن فريق بعينه، تزعجه النكتة فقط إن كانت ساخرة من فريقه والعكس صحيح.
لكن هناك من أرهقهم تلاحق الأحداث وتعاقب النوائب، ولم يجدوا في السخرية عزاءا لهم، على العكس أثارت بداخلهم قلقا أكبر، لكن قلقهم هذا لن يجدي مع مدمني السخرية.

النصيحة المثلى لهم قد تصير “إن كنت في مصر فافعل ما يفعله المصريون”، وبدلا من مقاومة التيار، استسلم له، وبدلا من نقد الضاحكين وإفساد “كيفهم” المنتشي دائما، تعالوا جميعا نضحك ونرقص كمجاذيب سخرية، أفقدهم شيء غير إنساني حسهم الإنساني بالأمور، وسلب منهم التقييم المنطقي للحدث، وترك لهم بلاهة الضحك دون سبب لكل شيء وعلى أي شيء!

لنرقص فوق أشلاء الخراب، فعلى ما يبدو لم يعد هناك ما نخسره أكثر مما خسرنا، والأعور عندما ضربوه على عينه.. لم يكترث!

هل هو اليأس أم أنها طبيعتنا؟

هل لأننا نعرف مقدار الفساد والخلل الذي يضرب جميع مؤسساتنا، ففقدنا حس الدهشة والاستنكار لأي مصيبة تحدث؟ وصار رد الفعل الأولي هو اعتبار ما حدث أمر متوقع، بل وبسيط مقارنة بما يمكن أن يحدث بمصر!

هل فيض النكات غير المنتهي، هو فعلا عفوي ووليد اللحظة من شعب ساخر، أم أنه تصفيق أحدهم لمُصاب حبيس خلف جدران عجزه كي يستمر بالقفز واللطم كهائج لا يعرف أي منظار تجربة هو تحت عدسته؟

المبالغات مقلقة أيا كان اتجاهها، فالحدة والمبالغة هما رد فعل وأعراض لخلل ما.  والمبالغة هي أقل وصف لما نعيشه اليوم.

قد تكون السخرية المريرة هي أحد وسائل التعبير المنتهجة في تاريخ الإنسانية للاعتراض على أمور لا يجب أن تحدث، وأوضاع يتحتم تغييرها، كما أن “الكوميديا السوداء” هي اتجاه إبداعي ظهر ليخلط الدراما بالهزل، ويفضح المسكوت عنه، لكننا في مصر تخطينا مراحل السخرية الهادفة، ووصلنا لمرحلة عبث سريالي غريب، حيث صارت السخرية نفسها هي الوسيلة والهدف، ولا هدفا سواها!

نفتخر أننا شعب “ابن نكتة” وتفسر تلك المقولة الساخرة لي الكثير، فبينما يتألم الـ “بني آدميين” عندما يتصورون هول لحظة ترويع “بني آدميين” آخرين، أو بشاعة جرم قتلهم، يكون لنا نحن كـ “أبناء نكتة” رد فعل مختلف تماما، لا يشوبه ألم أو تعاطف، ولا يوجهه قلق بالعواقب أو بحث عن الحلول.

كأبناء للنكتة، كل شيء يدعونا للضحك، والسخرية ويمر يوم بأحداثه ونكاته كي يستجلب علينا يوما آخر لنسخر منه هو الآخر.

نعم شر البلية يُضحكنا ولا يحق لأحد انتقادنا” ، واللي مش عاجبه بيقرا سخريتنا ليه؟
هذا هو المذهب المتبع حاليا، لذا تجد أصواتا عالية تضيق بهمهمة المستنكرين للمبالغة في السخرية وتناقل الأخبار قبل التأكد، أصوات تصف المُستنكر بثقل الدم أو الفلسفة الفارغة أو التنظير على المصريين دون هدف سوى إفساد متعة لحظتهم. بغض النظر عن حقيقة أنه لا يوجد ما هو ممتع بأي لحظة يعيشها المصريون مؤخرا!

لماذا يُزعج” البعض” سلوك جماعي شاذ كالضحك أثناء المصيبة، مثلا؟! بإمكان بعض علماء الاجتماع الإجابة على هذا السؤال البديهي.

لكن إن كنت تسأل هذا السؤال مستنكرا أي إجابة بديهية، فبإمكانك عندها اعتبار أن هؤلاء “البعض” ليسوا ولاد نكتة مصفيين والعياذ بالله، تسللت إلى جيناتهم بعض الخلايا الآدمية الخبيثة ويدفعون ثمن تلك الخطيئة الآن عندما لا يبدو لهم شر المصيبة مضحكا وهو عذاب لو تعلمون عظيم!

إن كنت أحد هؤلاء “البعض” المشكوك في نسبهم الأصيل للنكتة المُطلقة، فأنت قطعا تفهم ما أعني، وقد يبدو لك هذا المقال منطقيا.

أما إن لم تكن أحدهم، ولا ترى في بيان الداخلية سوى نكتة “حتة الحشيش اللي لقوها وماشربوهاش”، وفي حادث الطيارة الأخير هاشتاج “الحب في الهواء”، و” عشانك يا سارة خطفت الطيارة”، فدعني أخبرك أن “الحشيش هو الذي صار في الهواء”، ويا ليته لما سقاكم، سقانا جميعا، دون استثناءات، كي لا يحزن أحد لشر البلية!

No comments

Professional Blog Designs by pipdig