مدونة حكايات فريدة

الهرب من ظلال الرمادي إلى عمق الأحمر



الهرب من ظلال الرمادي إلى عمق الأحمر
قراءة في رواية "خمسون ظلا رماديا"
أميرة الشربيني

كنا جالستين على الأرض, في نزل سكني قديم تابع لكنيسة, كان دير راهبات ذات يوم
كنا حرفيا في النصف الآخر من الكرة الأرضية, بأريزونا, نتحدث عن الحياة والعمل, الرجال والحب.
كدت أوصي لها بكتاب, فأطرقت وهي تعترف بنبرة شابها الإحراج" أنا لست هاوية للقراءة"
لم أفهم سبب إحراجها سوى تصورها كوني أعشق القراءة والكتابة, قد أحكم سلبا عليها, قلت لها ببساطة "القراءة عادة ليست بسهلة تستلزم الصبر, وكثيرون لا يفضلونها"
فعقبت بنوع من الارتياح "أنا أمل سريعا, لذا لا أستطيع انهاء كتاب"
ثم تصمت كمن تذكر شيئا وتميل علي قليلا وتخفض صوتها كمن يبوح بسر
"في الواقع هناك كتاب واحد قرأته حتى النهاية, ولم أمل منه"
لم أعلق ولو بتساؤل, كان جليا أنها تريد إخباري عن الكتاب, فنظرت لها كمن ينتظر إنهاء جملة, فأردفت
"هذا أمر مخجل للغاية, إنه كتاب حسي مثير جدا"
"هو كتاب عن الجنس؟"
ترد علي" رواية, تدعى خمسون ظلا من الرمادي, ألم تسمعي بها؟"
ألقت سؤالها الأخير بتعجب المستنكر, لكني أكدت النفي بهزة رأس
فقالت أنها رواية إيروتيكية بشكل غير مسبوق, فعلقت أن الجنس دائما موضوع جذاب رغم تابوهات المجتمع والدين, تحول بصرها إلى الصليب المعلق على الحائط المجاور لنا, فتحول بصري إليه لا إراديا.
وقالت معترفة أن حبيبها الذي كانت تحكي لي عنه سابقا هو أول صبي يقبلها في حياتها وأنه لا خبرة لها فيما يتعلق بالجنس!
هي من جنوب أفريقيا وأنا من مصر, لا يوجد عندي خلفية كافية عن مجتمعها لكني أعرف أنه في مجتمعي انعدام الخبرة الجنسية هو أمر مفترض بالنسبة بالنساء.

كان ذلك في يناير 2013 وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن الرواية التي حازت شهرة عالمية وتحولت مؤخرا إلى فيلم, ولم يثرني الفضول لقراءتها حتى شهر مضى, عندما بدأ تركيز الصحف الأجنبية المكثف على الفيلم وتحليل الرواية ونقدها.
دفعني الفضول أخيرا لشرائها, فلا يمكن لشيء أن يستهوي هذا العدد من الناس فقط لكونه ايروتيكيا, وأنا عادة لا أنظر للأشياء بتلك السطحية, حتى وإن لم توافق ذوقي الشخصي.

قطعا هناك شيء ما أبعد من الكتابة المحرمة فرواية مستر جراي "كما هو اسم البطل" ليست الكتابة الأولى ولا الأخيرة التي تتعدى الخطوط الحمراء وتحوي مشاهد صريحة ومباشرة عن العلاقة الأكثر خصوصية, لكن لم يتحول كل عمل صريح إلى ظاهرة كما تحولت تلك الرواية.

الرواية ومنذ البداية تبدو أشبه بكتابة مراهقة عاطفية, وتفاصيلها ساذجة لحد يثير التهكم, حيث القصة التي تحاكي في خطوطها العريضة ذلك الحلم الجميل الموجود في كل القصص الخيالية التي نقرأها منذ الطفولة.
الأمير الساحر الذي يقع في حب الفتاة البسيطة, العادية, والفقيرة, ويجعلها أميرته, ويفضلها عن أخريات أجمل وأفضل, لأن بداخلها شيئا مميزا وآسرا.

جاهدت نفسي في بداية الرواية أن أصبر كي أكمل, فعلى المستوى الشخصي لا يفقدني الاهتمام في كتابة أو عمل فني أو حتى حديث شيء قدر الإغراق في "الستريو تايب"/ النمط المتوقع, وتلك الرواية تشبه في حدوتتها كل ما رأيناه وسمعناه آلاف المرات.
لكن ما يثير الفضول والترقب هو كون الأمير الساحر, رجل سادي له نزعات جنسية منحرفة, ويود من السندريلا أن توقع على عقد اتفاق مبرم بينهما أن تصير له عبدة.

إلى أن وصلت لتلك النقطة كنت قد فهمت أن الرواية ذات اللغة البسيطة وصلت لكثيرين, فالكتابة المنمقة المتفلسفة واللغة الرشيقة الثرية تبدو أحيانا صعبة على هؤلاء الذين تبدو لهم القراءة وجبة دسمة وغير مغرية.
لذا فإن امرأة إنجليزية غير معروفة تكتب لغة بسيطة لدرجة السذاجة ستلقى صبرا أطول وخصوصا إن كانت الكتابة مفخخة بالجنس والشهوة.
وكون تلك الممارسات غير عادية, يزيد الأمر إثارة, ولقد كان بإمكاني ألا أكتب عن الرواية وأسلم, بأنه هذا أمر اعتيادي للغاية أن يثير ما هو ممنوعا رغبة أكبر وفضولا أكبر ورواجا استثنائيا.

لكن الرواية التي لا ترقى لغتها ولا أسلوبها لاستحقاق النقد الأدبي, تعكس وجه إنساني غاية في الصدق.
إن الحميمية لا تكمن في الجنس, فإشباع الفطرة الجسدية بكل شذوذها أو طبيعيتها, يضعنا على حافة المتعة للحظات معدودة تنتهي عندما يفرغ الجسد مما أراد.

تلعب الرواية على الوتر المخفي في قلب كل شخص, سادي كان أم مكتفي بالمتع التقليدية, أن تُحب كما أنت ويتقبلك الآخر كما أنت, بأقذر ما فيك قبل أن يكون أجمله, وأن يتكشف الآخر لك تماما, فتشعره قريبا من نفسك كجلدك, لا يخجلك رؤيته تشوهك.
الرواية ذهبت إلى شكل حاد من أشكال الخروج عن المألوف, مقلدة رواية Twilight حيث مصاص الدماء, وجد من تحبه وتقبله رغم كونه غير بشري, وهي رواية حققت نجاح ساحق هي الأخرى وتحولت إلى فيلم.

عامل الجذب في الرواية, هو نفس الحبكة البسيطة المعتادة في قصص الحب فعلى طول الرواية, مطاردة عاطفية, بين البطل والبطلة تمثل العقدة الأزلية بوجدان الرجال والنساء, حيث الرجل يريد الجسد والمرأة تريد القلب.

وأنا واثقة أن النساء اللواتي قرأن الرواية, قد أعجبن بصبر "جراي" على "آن", ففي رأيي هي بفمها الذي دعاه هو ذكيا كانت في كثير من اللحظات مجرد مخلوقة تفكر أكثر مما ينبغي, تغتال اللحظة والمتعة.
لكن "جراي" الرائع, كان صبورا, متفهما, مستمعا, ومجيبا أحيانا. رجل الأعمال البليونير. المشغول جدا, يتبادل الإيميلات مع "آن" حبيبته, حتى وهو في وسط اجتماعه, يظهر على باب غرفتها عندما تريده, تاركا كل شيء من أجلها!
على الجانب الآخر, كثير من الرجال قد يجدون المتعة الكاملة في حقيقة أن "آن" هي الفتاة العذراء التي كان "جراي" أول رجل بحياتها, وأحبته واستجابت لتحكمه بها, مما يزيدها جمالا وجاذبية, فبالفطرة, تلك المرأة الطيعة جدا التي تذوب في الرجل, هي حلم لطيف.

تعبر الرواية عن أحلام ساذجة ومتأصلة بوعي الرجال والنساء في أنحاء العالم أجمع وليس الشرق فقط.
لو كتبت هذه الرواية في أحد بلاد الشرق لتبارى البعض متهما الكاتب بالترويج للفكر الذكوري التقليدي, حيث المرأة مجرد دمية من أجل إشباع الرغبة في يد الرجل.

لكن الرواية صدرت من عالم, العذرية لم تعد فيه شيئا تخجل النساء من فقده, ولا العلاقات الجسدية غير مباحة, قد تكون تطرقت إلى شكل أكثر تطرفا وأقل تواجدا من تلك العلاقات, لكن قد لا يكون هذا السبب الوحيد لشهرتها.
عندما ترقب المجتمعات التي تخطت حدود المفروض, تجد أنهم يعانون من نفس المشكلات ولكن بأشكال أخرى, وأن انتشار عيادات "علاج الزوجين" وعدم انقراض مشاكل العلاقات الاعتيادية من طلاق وخيانة وخرس زوجي... الخ يبرهن أن الحل ليس في كسر التابوهات وحسب.

قد تظن أن المشاكل تتلخص فقط في العلاقات الجسدية التي لا نصرح بها, وينعكس عدم الاتفاق الجسدي على علاقة الزوجين فيتباعدا.

المشكلة الحقيقية تكمن في التواصل, والتواصل لا يختصر فقط في أن يسمعك أحدهم, بل يجب أن يفهمك والأكثر يتقبلك وإن كان مختلفا عنك.

إن بإمكاننا البوح بأدق أسرارنا لشخص ما ولا يجعله هذا قريبا كما توقعنا, وقد نشارك المتعة الجسدية مع شخص ما وتشبعنا لكن يظل هناك خمسون ظلا رماديا مخفيا بالداخل يحوي كل ما لا نريد حتى معرفته عن أنفسنا.

يجب أن أكون منصفة واعترف أن مجتمعاتنا الشرقية هي الأقل حظا لأن لغة التواصل مشوشة لا فقط بين الرجل والمرأة ولكن بين الجميع.

في الوعي السليم يشكل التواصل جسرا للحميمية الفعلية التي تشكل التوازن الحقيقي للإنسان بالحياة.
على ما يبدو أن تلك الدرجة من الضعف, بأن نكون مكشوفين بتاتا وغير مسلحين بأي حاجز من حواجز الكبر, الإدعاء أو التماثل, هي درجة صعبة جدا على الرجال خصوصا, لذلك يربكهم الحب أكثر مما يربك النساء, حيث من المفترض من الرجل أن يكون قويا.

ورجال عدة بالحياة يقاومون بغريزية فكرة فقد السيطرة وينبذون ضعف الحب وتعريته للروح, تماما مثل "جراي" وهذا دون أن يعانوا من كل تلك العقد النفسية التي شوهته.

ترفض "آن" أن تعطي نفسها بالكامل دون أن يعطيها "جراي" نفسه أيضا, لا يكفيها أنه شاركها أسراره المخجلة ولا أنه على استعداد أن يبهرها باستمرار, وهنا تعود الرواية لأحد الأفكار النمطية أن الرجل لا يهمه الحب والحياة بالنسبة له أبسط حيث عقله كرجل مدرب على أن يحدد احتياجاته ويشبعها, بينما المرأة العاطفية,غارقة في حدة مشاعرها وفلسفة أفكارها بحمق وعناد.
الحب ليس بكلمات ولا ممارسة علاقة, ومحاولات توحدنا مع شخص ما, هي السر الرمادي الأكبر الذي نتجنب أحيانا الاعتراف به.

تحكي الأسطورة أن الآلهة قد خلقت الرجال والنساء في الأصل كجسد واحد, ثم غضبت عليهم فقسمتهم وشتتهم في الأرض كي يبحث كل نصف عن مكمله, وفي ذلك التصور الأسطوري تلخيص لعذابات بشرية متأصلة على اختلاف أعراقنا ومعتقداتنا.

الرواية الساذجة ظاهريا, تصور رجلا يريد امرأة تقبله بكامل إرادتها بعيوب ماضيه وشذوذ رغباته, وامرأة تريد رجلا يحبها لنفسها ويصير لها وحدها, وهي حكاية يكتبها الجميع بصور مختلفة, ولكن دون الإشارة إلى غرفة المتعة الحمراء,والقيود الجلدية والسياط والمتع المتطرفة.

إن ذلك المزيج القاتل, للمحبة الغير مشروطة مع الجاذبية الجسدية غير المسبوقة, هو الغرفة الحمراء المخفية بداخلنا, وهو ما يحرر النفس تماما, فيبهرك الجسد بكل ما لم تتوقع حتى أنك تعرف.

#fifty_shades_of_grey

No comments

Professional Blog Designs by pipdig