مدونة حكايات فريدة

(شاهد "تحت السيطرة" وتناسى أن كاتبته امرأة)





(شاهد "تحت السيطرة" وتناسى أن كاتبته امرأة)

قراءة في نص غاية في الجمال أبدعته "مريم نعوم"


جرت العادة أن يختلف المنظور للعمل الفني إن كانت مبدعته امرأة, وفي وجدان المُتلقي هذا عامل يؤثر على منظور تلقيه لا إراديا.

وفي عالم الكتابة إن كنتِ امرأة فهناك أمران لن تسلمي منهما, أولهما التساؤل عن مدى معايشتك الواقعية لما تكتبين عنه أو بتعبير أبسط إن كنتِ تكتبين عن تجربة؟ وهو نوع من أنواع الاتهام الضمني للمرأة بمحدودية الإبداع حتى أنها لا تستطيع التعبير عن شيء أفضل من مشاعرها الشخصية!

الأمر الثاني الذي يحدث تلقائيا هو افتراض أن المرأة تكتب فقط عن بنات جنسها وأن إبداعها يدور حول الدفاع عنهن! ولو أننا قرأنا رواية لرجل كل أبطالها رجال ومحاور حكاياتها الأساسية عن رجال مثله لن يتهمه أحد ب "ذكورة الإبداع" بينما إن كتبت المرأة وجعلت بطلتها الأساسية امرأة تُنعت كتابتها ب "الأنثوية" أو "النسائية".

في العموم تصنيف العمل الإبداعي وحصره في منطقة محددة هو ظلم لأي إبداع حيث أن الفن غرضه الأساسي مخاطبة الإنسانية والتعبير عنها وبذلك يُكتب له الخلود كما يجب أن يحدث.

"مريم نعوم" لم تسلم من تهمة كونها امرأة عند تناول عملها الأخير المميز جدا "تحت السيطرة", ذلك العمل الثري بالتفاصيل والممكن تناوله من أكثر من جانب لكني سأكتفي بالتركيز على فكرة بعينها لأن عدة مقالات تلزم لعرض ذلك العمل الذي توافرت فيه أوجه نجاح متعددة, أحدها وبالنسبة لي يعد أهمها, هو النص.

للعام الثالث على التوالي تلفت "نعوم" الأنظار لإبداع نصها وتميزه, في العامين السابقين أعادت صياغة قصص كتاب كبار, حيث "ذات" هي رواية للكبير "صنع الله إبراهيم" و"سجن النساء" مأخوذ عن مسرحية للكاتبة "فتحية العسال".

"تحت السيطرة" أعاد صياغة قصص واقعية, وصرحت الكاتبة أن العمل جاء انعكاسا لمشاركة مدمنين قصصهم الحقيقية, التي أدمجتها "مريم" مع وحي خيالها وعززت العمل بترابط تسلسل الأحداث وروعة الحوار, ليخرج عمل حاز أكبر نسبة مشاهدة وإعجاب كما حدث في عمليها السابقين.

لم يدر "تحت السيطرة" حول تناول هوة الإدمان السحيقة فقط وما تفعله بمن يسقط بها, بل ألقى بظلال واضحة على حقيقة العلاقات الإنسانية عامة وعلاقات رجال ونساء خاصة, وعندها تبارى المتلقون في تكرار المنظور النمطي المعروف, أن "نعوم" تكشف نذالة الرجل, وتخاذله وضعفه مع المرأة, ركز المشاهدون مع شخصيات العمل الرجولية ولاقت حقيقة كون معظمهم سلبيين هوى في نفس نساء مجتمع يعاني من ازدواجية فيما يتعلق بالعلاقات العاطفية, وقطعا أكد هذا المنظور العنصري كون الكاتبة امرأة.

على النقيض رأيت العمل, ولم أستطع تفادي مقارنة "مريم نعوم" ب "مريم نعوم" نفسها, بين عمل العام الماضي "سجن النساء" وبطلات حكايات "تحت السيطرة".

بعدما برعت الكاتبة في تصوير طبقة النساء المغلوبات على أمرهن في "سجن النساء", وعرضت كيف تؤثر عليهن الظروف الاجتماعية والمادية بالسلب وكيف يطحنهن مجتمع يعاني من تشوهات إنسانية عدة أحدها وليست أخطرها عدم تكافؤ العلاقة بين الرجل والمرأة, عرضت "نعوم" هذا العام شريحة مختلفة تماما من النساء, شريحة حياتها أبسط وأسهل, والرفاهية الحقيقية أحد مميزات معيشتها.

نساء "تحت السيطرة" لم يظلمهن رجل ولم يضيعهن أحد ولا أعذار لهن, وهذا ما أوضحته الكاتبة وشددت عليه ولم يمس قلمها أي شائبة عنصرية عندما كتبت عن نساء حصلن على أفضل تعليم ممكن, وعلى الرغم من هذا أغلبهن لا يعمل لأنهن مكتفيات ماديا, واختياراتهن الخاطئة بالرجال كانت محض إرادتهن, لا واحدة منهن فتاة مقهورة مغلوبة على أمرها زوجها أخ قاس أو أب جاهل, لم يحدث, من تزوجت الرجل الذي لم تحب وعاشت كغير متزوجة في سبيل الرفاهية ولم تفكر أبدا أن تعمل وفشلت في تربية ابنتها, لم يضطرها لهذا أحد.

ومن أحبت المدمن, صديق شقيقها طوال عمرها وغضت الطرف عن كل مصائبه وحتى حقيقة أن قلبه معلق بامرأة أخرى, لم تجبرها ظروفها على هذا.

"هانيا" المراهقة التي خطفت الأضواء في العمل, لم ترسمها "مريم نعوم" بنمطية كفتاة مدللة ثرية فاسدة, بل كانت فتاة ذكية ومتفوقة وتملك الكثير الذي يؤهلها لمستقبل أفضل مما آل إليه مصيرها, ومن خلال الكتابة الحيادية ترى حرية اختيار تلك النساء, فمثلا لم يغرر "علي" ب "هانيا" بل ألحت هي عليه كي تجرب رغم محاولاته صدها.

إن قرأت العمل دون معرفة أن كاتبته امرأة قد تشعر بالشفقة نحو "حاتم" رغم سلبيته لكونه عشق امرأة اكتشف أنه لم يعرفها, والنساء أنفسهن لو عرضنا عليهن قصة امرأة عشقت رجل من كل قلبها لتكتشف بعد عامين من زواجهما أنه لم يكن صادقا معها وأنها عاشت خدعة الحميمية والحب والصراحة بينما هي لا تعلم شيئا, ستشعرن بالأسى من أجل تلك المرأة!

لم تتنبه الغالبية للحكاية الوحيدة الناجحة, حيث المرأة مستقلة وتعمل وتعرف ما تريد, ليست بتافهة ولا سطحية. "مايا" التي طلبت من "هشام" الزواج, وهشام الهادئ العاقل, الذي أحبها واستقر رغم تجربته السابقة الفاشلة ولم يفرق معه حقيقة أنها لن تنجب.
على العكس لم يرى البعض سوى حقيقة طلب "هشام" من "مايا" الابتعاد عن مريم وتعالت الصيحات منددة بتحكم الرجل الشرقي, وتناست كل امرأة أنها لو عرفت أن بن عم زوجها مدمن وكاذب, وأنه الصديق المقرب لزوجها, لن تنام قريرة العين على هذه الفكرة وتسعد بتقضيتهما أغلب الوقت معا. وقد لا تملك المرأة الشرقية سلطة أن تحكم على رجل بعدم مقابلة شخص بعينه لكنها تلجأ لأساليب أخرى عندما يكون هناك ما يثير خوفها وقلقها, وكلنا نعلم هذا.

نساء كنا أم رجال, لا كمال لأحد, وعنصرية المنظور توقع الكاتب في فخ النمطية التي لا تشبه الحياة بتناقض تفاصيلها.
لذا فإن "مريم نعوم" لم تكتب كامرأة, بل أبدعت كإنسانة وهذا ما أعجبني على الأكثر, فلم تدافع عن نساء ولا شوهت رجال, كل شخصية في المسلسل تحمل جوانب من الخطأ وكل علاقة اشترك طرفاها في إنجاحها أو تدميرها.

نمطية الحكم على عمل بجمال " تحت السيطرة" تقلل من شأنه فهو عمل عن حرية الاختيار وإرادة شخصياته كانت هي المحرك الأساسي لفشلهم ونجاحهم, والكتابة فيه تُبرز تبعات الاختيار التي يتحملها الإنسان كاملة, ولم تكن نساء "تحت السيطرة" ضحايا رجال, هن ضحايا أنفسهن, وقراراتهن الخاطئة والكوارث التي يتسبب فيها الإدمان, والرجال أيضا.

وبغض النظر عن القراءات الغير محايدة للعمل ففي رأيي أن "مريم نعوم" قد كتبت هذا العمل باحترافية ونضج يُحسبان لها.




أميرة الشربيني

No comments

Professional Blog Designs by pipdig